مع بداية العام الجديد، لا يزال الجدل مستمراً داخل قبة البرلمان حول مشروع الموازنة الاتحادية لعام 2019. فعلى الرغم من رد مشروع الموازنة الأولي إلى مجلس الوزراء لإجراء جملة من التعديلات، إلّا أنّ النسخة المعدلة زادت من عمق الاختلافات حول بنود النفقات المقدرة ومصادر التمويل المعتمدة لهذا العام.
إذ لم تراعِ الموازنة الاتحادية بنسختها الأخيرة جملة من التحديات أبرزها انحسار الإيرادات النفطية وتفاقم حجم الدَّين العام فضلاً على غياب البرنامج الحكومي عن بنود وأبواب الموازنة كما في السنوات السابقة. مع ذلك، يبدو أنّ هناك إدراكاً حكومياً (مجلس النواب تحديداً) لخطورة التمويل المستمر لعجز الموازنة الاتحادية بديون (الخارجية بشكل خاص) تثقل عبء الموازنة والاقتصاد مستقبلاً، بعد تجاوز الدَّين العام (بشقيه الداخلي والخارجي) عتبة الـ(125) مليار دولار حتى نهاية العام 2018.
لقد شهدت الموازنات العامة في العراق، خلال السنوات الأخيرة، ظاهرة مالية خطيرة تتمثّل بارتفاع النفقات الجارية وتحقيق فوائض مالية في النفقات الاستثمارية، بسبب انحراف الاستفادة من تخصيصات الموازنة الاستثمارية بشكل أمثل. وهذا يعني أنّ الطاقة الاستيعابية لنفقات الموازنة التشغيلية تمتلك المرونة والقدرة العالية على الانتفاع والتنفيذ المالي في حين تنحرف الطاقة الاستيعابية للمشاريع الاستثمارية وتنخفض عن معدلات الانتفاع الحقيقي والمالي بنسبة تقارب (50%) في المتوسط. ويحوّل الفائض في انحراف مستوى الاستفادة من الطاقة الاستيعابية الاستثمارية في الموازنة العامة إلى مورد تمويل إضافي لبرامج التوسع السنوي في الموازنة التشغيلية للعام المقبل.
وما يثير القلق فعلاً أنّ معظم النفقات الاستثمارية تمول عبر الاقتراض الخارجي، وبالتالي، فإنّ عدم تنفيذها بشكل كامل يعني ضياع كلفة الفرصة البديلة وتحميل الموازنات اللاحقة كلف الاقتراض وأقساط الدَّين العام التي تنمو (أحياناً) بمعدلات تفوق النمو الاقتصادي، ممّا يهدّد تحقق الاستدامة المالية ويزيد من فرص انزلاق البلد إلى فخ مديونية جديد، خصوصاً مع صعوبة ضغط الإنفاق التشغيلي وانحسار الآفاق المستقبلية لتعافي أسعار النفط في إطار تباطؤ الاقتصاد العالمي وتخمة المعروض النفطي، وضعف الجهود الحكومية في تعزيز الإيرادات غير النفطية لتمويل الإنفاق العام.
من جانب آخر، فإنّ الاقتراض الخارجي لأجل تمويل النفقات الاستثمارية دون وجود طاقة استيعابية لتلك النفقات (بسبب البيروقراطية والفساد والصراع على عقود المشاريع) يؤدي إلى الاستيلاء على جزء من تلك الأموال في إطار عملية الفساد المستمرة لموارد البلد المالية. وما يثبت تلك المقاربة، إقرار الموازنة بعجز مخطط في العديد من السنوات السابقة، لتنتهي بفائض فعلي، كما هو الحال في موازنة العام 2018 مثلاً. وهكذا تم اقتراض أموال خارجية باسم تمويل الإنفاق الاستثماري العام، في حين عجزت مؤسسات الدولة عن استثمار تلك النفقات بالشكل المخطط، لجملة من الأسباب أهمها البيروقراطية والفساد الإداري والمالي والصراع السياسي على العقود وضعف أداء الجهات المنفذة وبطء إطلاق التخصيصات الاستثمارية وغيرها من الأسباب.
ما هي السياسات المطلوبة؟
لتلافي تكرار المشاهد السابقة، ينبغي إعادة النظر في معدلات الإنفاق الاستثماري المخطط، والاستفادة من تجارب السنوات السابقة، وتقليص بعض بنود النفقات الاستثمارية غير القابلة للتنفيذ لتجنب الاقتراض. وإذا ما كانت هناك فرصة للبدء بمشاريع استثمارية إستراتيجية، وتوفر الجهات المنفذة وتم دراسة تلك المشاريع جيِّداً، عندها يمكن إنجاز موازنة استثمارية تكميلية، تلحق بالموازنة العامة، وتحاط بأقصى درجات الرقابة والتخطيط. أيضاً يمكن التركيز على الاقتراض الداخلي، من المؤسسات المالية المحلية والجمهور أيضاً، عبر إصدار سندات بفئات مختلفة.
هذا المصدر التمويلي سيكون أكثر أماناً وتحقيقاً للسيادة الاقتصادية، وسيسهم أيضاً في ضبط الاستهلاك وتقليص الطلب على الدولار. كما سيتم حقن فوائد الدَّين العام المحلي إلى الداخل بدلاً من تحويلها إلى الخارج وبالعملة الأجنبية.
وأخيراً، لابدّ من التفتيش والتدقيق جيِّداً في نسب الإنجاز الفعلي ومقارنته بالمخطط للتحقق من الأموال المدورة من جهة، ومتابعة الجهات المتخلفة في إنجاز المشروعات المخططة من جهة أُخرى، والحدّ من الفساد والتلاعب بالأموال الراكدة في الموازنة العامة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق